ثقافة القدم وثقافة العقل!!
د.ماجد عرب الصقر الزبيدي
بقيت البارحة سهرانا مع الكواكب السائرة في السماء الصافية حتى إنبلاج خيوط الفجر،لم يعرف النوم سبيلا إلى عيوني! ودعتني الكواكب الزاهية ماضية للراحة والإسترخاء ،وبقيت أتقلب واتأفف إلى أن نادى المؤذن النداء الأول والثاني،فلم يكن من بد ، سوى مواصلة النهار بالنهار،دون راحة أو فائدة من سبات الليل!
لم أكن أتأمل في عشيقة أو محبوبة!ولم يكن دماغي ينسج خيوط مؤامرة من أي نوع ،البتة!بل ان المسالة تختصر في إدارتي مؤشر مذياع مركبتي في الصباح في طريق ذهابي للجامعة على الرغم من ندرة إمتطائي لعربتي في مشوار الذهاب للجامعة،ذلك أنني بعد سنتين من ركوب سيارتي من البت للجامعة وبالعكس وصلت لقناعة مؤكدة أن هذه العادة ليست من الصحة والتدبير في شيء! فأنت تعود مرهق العينين ،متوجع الرقبة والظهر،عصبي ،ليس في جسدك من حيوية ذات بال،في مشوار درب ينوف عن مائة وعشرين كيلو متر ،ترتجف في كل متر من "خرابيط"العرب الأردنيين في السياقة،كانك في سباق إبل في صحراء وأودية وسفوح ،ودون أن يفارق خيالك وعقلك معا ،منظر إفتراضي، لجاهة جاءت تطلب من أهلك العفو لقتلك على يد راع غنم أو متقاعد صدم سيارتك فاودت "تياسة"ذلك السائق بك وبعائلتك!وما كان من اهلك وذويك سوى أن شربوا مع جاهة القاتل ، القهوة العربية"السادة"، على روحك المغدورة ،من أجل خاطر فلان وعلان!وسيقول الجميع بعدها:رحمه الله...قضاء وقدر!
وعليه فقد آثرت من العام 2003م أن أركب حافلة الجامعة مع الطلبة،تارة أسترخي واغمض عيني ،وتارة أنجز مسودة مقال في الذهاب، أنشرها على مواقع شبكة المعلومات في سويعات فراغي بين المحاضرات في يوم وصولي،وتارة أتأمل في القادم من الأيام وأحضر نفسي لجدول من الأعمال والمناسبات ،أو أصحح مسودة قاموس أو بحث في طريقه للنشر في دورية مطبوعة!
وقد وجدت فرقا كبيرا في مزاجي وصحتي ونشاطي وتدبير المال بين الحالتين!تمنيت لو أنني لم أعتل ظهر حصاني الحديدي طيلة عامين أو يزيد قليلا، ليس حبا في التوفير المالي،بل للتخلص من شبح الجاهات والعطوات لو مال على حصاني ،ثور من الثيران الكثيرة التي تجوب الطرق والدروب تمتطي عربات حديدية وكهربائية معظمها حديث الصنع،لا يستطيع الثور منهم التفريق بين الكابح والغيار الخلفي!بل أن الكثير من أولئك الثيران يركبون عربات تمنى صناعها من العلماء والفنيين الغربيين لو يركبوها بضعة أيام! ك"الرويس رويز"و"الكاديلاك"و"الجاغوار"أو الفهد بالعربية!
يبدو أننا سرحنا بعيدا عن موضوعنا المتلخص في السبب الرئيس لقلقي وعدم نومي،ولابد من العودة له،ذلك أنني أدرت في الطريق المذياع على هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)التي تعني بالإنكليزية: British Broadcasting Council، (يقال أن محدثكم مولع بمختصرات الإنكليزية في المعلوماتية، من يدري؟)! وليتني لم أدره! على الرغم من علمي ويقيني أن هذه اٌلإذاعة – المخضرمة في التحاليل السياسية والإقتصادية والعلمية والإجتماعية،والبارعة في إختيار وإستجلاب الكفاءات الإعلامية والفكرية العربية طيلة مايقرب من قرن من الزمان - لم تكن يوما محايدة في مسائل الصراع العربي مع الغزاة الصهاينة وتطورات القضية الفلسطينية،وأنها خدمت المشروع الإستعماري السياسي والإقتصادي واللغوي البريطاني على إمتداد ساحات الوطن العرب طيلة فترة طويلة من الزمن وماتزال!!
وقد يعذر لي في تجاهلي لتلك القناعة بدور تلك الإذاعة ،انني منذ ولدت واذني تسمع اثير تلك الإذاعة!ذلك أن والدي رحمه الله كان شديد الإلتصاق بأمرين: العمل على توفير لقمة العيش لنا في ظروف بائسة وشديدة الصعوبة،وقضاء معظم أوقات فراغه صافنا مع برامج تلك الإذاعة إياها! ولم يكن رحمه الله ليقبل أي تشكيك في أي من برامجها أو اخبارها!وكان يرد على من يحاول لأأن يصرح أو يلمح لذلك بالقول:"أود أن أسألك :هل هناك من بديل عربي لهذه الإذاعة"!فيصمت الذي في قلبه شك أو مرض ويذهب دون أن يجرؤ على الرد!
لكن والدي رحمه الله كان طيلة عقد الستينيات من القرن المتوفي يستمع سرا - بعد أن يطمئن إل الجيران - لإذاعة صوت العرب من القاهرة! دون أن يتردد في متابعة تلك الإذاعة الإنجليزية المباح والمحلل سماعها،إذ كان رحمه الله يطلق العنان لسماعات مذياعنا الصندوقي الضخم تغرد في الحي ،دون أن يجرؤ أن يسمع احد غيره صوت "احمد سعيد"او "جمال عبد الناصر"او مقال "محمد حسنين هيكل"الأسبوعي: "بصراحة"الذي كان ينشر في يومية" الأهرام التي أسسها شقيقان عربيان لبنانيان اواخر القرن التاسع عشر الميلادي!
ليس قصدي في هذه المقالة/العجالة البحث في نزاهة أو عدم نزاهة هيئة الإذاعة البريطانية ،ولا في تعريف القارىء الكريم أنه كان محظور علينا كعرب في الأردن والسعودية وبعض الأقطار العربية القليلة ،الإستماع ل"صوت العرب"ولا البوح أن وشاية من واش رخيص من أكثر المستويات الإجتماعية والتعليمية إنحدارا وسفلية ،يقول فيها أو يكتب(إن عرف الكتابة!)أنه سمع "صوت العرب"في بيتك ،قد تؤدي بك الى التوقيف بعد "فلقة"محترمة على مؤخرتك وقدميك ،تلزمك النوم على جنبيك فترة من الزمن!!دون ان يفكر من امر ب"الفلقة" ومن نفذها ،برهة ،بجوع اسرتك وشقائها ، لتوقف معيلها الوحيد عن جلب الرزق!ومازلت –ياصديقي- تسالني لماذا هزمت مجندات الجيش الصهيوني جيوشنا ودولنا في ست ساعات!وكيف إحتل الجبناء قبلتنا وفلسطيننا وجولاننا وسينائنا والقرى السبعة على الحدود مع لبنان بمحاذاة قرية "فسوطة" الجليلية الكاثوليكية (سلام ياصديقي وزميلي صبري إلياس جريس وانت تجلس الآن تحت شجرة التوت في بيتك في "فسوطة"... كان صبري يقول لي دوما ،ياماجد: درست البكالوريوس والماجستير في الحقوق بالجامعة العبرية، وأسست مع رفاق أول حزب عربي في فلسطين بعد النكبة، لكن أحلى لحظة في حياة اهلي وقريتي هي لحظة زيارة صواريخ "فتح"لقريتنا في طريقها لمستعمرات الجليل!!!
مالنا ولصبري جريس الذي يعد أهم مؤلف عربي إسلامي ومسيحي في تاريخ الصهيونية!وأهم وأول من الف كتابا مرجعيا عن "العرب في إسرائيل "ترجم لأكثر من ثلاثة عشر لغة عالمية؟
وعودة لموضوعنا الأساس:لايظن القارىء الكريم أن الكاتب من الكارهين أو الحاقدين على هيئة الإذاعة البريطانية،إذ هو ساعتها سيكون متناقضا مع نفسه! وذلك لأنه كثير مايستضاف على بعض برامجها المباشرة ويتحدث بقوة وجراة عن بعض مجريات الصراع مع الصهاينة!والأمر نفسه على تلفزيون أل"بي بي سي"أيضا!إلأ أن سماعي لأنباء الإذاعة البريطانية في تمام الساعة الثامنة وخمسين دقيقة من صباح الثاني عشر من حزيران/يونيو الماضي، جعل من أحد الأنباء المتخصصة بالرياضة العربية يقلقني ويسبب لي أرقا جعلني فاتحا عيوني وفاغرا فمي طيلة ثمان وأربعين ساعة بالتمام والكمال!إذ قال المذيع ماحرفيته:"تعاقد المنتخب السعودي لكرة القدم مع مدرب برازيل ،بقيمة تسعة ملايين ونصف المليون يورو"!!إنتهى الخبر ولم ينته إرقي وحزني ورعبي،وانا أرى الملايين من الأسر العربية الكريمة في مصر وفلسطين وتونس والأردن وقرى في السعودية ذاتها تسكن المقابر والصفيح والإسبست وفضلات الأخشاب!!
ولعل وجه الحزن والرعب والإستغراب نابع من عنصرين،اولاهما :إن المبلغ المذكور كفيل ببناء خمسمائة وحدة سكنية للعرسان الشباب ،في حدود سبعين مترا مربعا للوحدة السكنية الواحدة(أكبر بكثير من حجم شقة رئيس جمهورية الهند النووية البروفيسور" أبو الكلام"الذي يعد ألأب الفعلي للبرنامج النووي الهندي وهو مسلم سني إعترف بفضله الهندوس فوضعوه على رأس دولتهم)!وأكبر من مساحة معظم رؤساء الجامعات اليابانية!ومن يدري قد تكون أكبر من مساحة إمبراطور اليابان الراحل الكبير "ميجي"الذي صرخ في وجه شعبه قبل أكثر من ثمانين عام، قائلا:"عليكم أن تلحقوا بالغرب وأن تتجاوزوه"!!
بل أن المبلغ المذكور يساهم في صمود أهل القدس المهددين بالطرد من بيوتهم،أو مساعدة أولئك الذين تهدم بيوتهم في نواحي الضفة الغربية لنهر الأردن!!
والعنصر الثاني للحزن والرعب أن المنتخب السعودي لكرة القدم او غيره من المنتخبات العربية الخليجية لم يحرز أية بطولات إقليمية أو دولية منذ أن وعى الكاتب على هذه الدنيا العجيبة الغريبة يارعاك الله!
وقد حلمت أحلام يقظة خلال أرقي ومجافاة النوم لمآقي ،مفادها أن إدارة المنتخب السعودي لكرة القدم قررت إلغاء العقد مع البرازيلي الذي قد يكون لم يكمل الثانوية العامة أو قد يكون مثل بعض نواب البرلمانات العربية ممن لم ينه سوى الصف الخامس،الشعبة" واو"! وأن إدارة ذلك الإتحاد قررت بناء خمسين مدرسة إبتدائية دعما للشعب العربي الموريتاني الشقيق أو الشعب العربي في جمهورية جزر القمر او الصومال العربية التي دخلت مرحلة الجوع الفعلي!(ألله يهديك مساء الخير يازميلي محمود الصومالي لأنك درستني وافهمتني(أنا الشامي) النحو والصرف بالجامعة بالرياض عام 1978م)!
ومن احلام اليقظة الأخرى التي تخيلتها أن إدارة الإتحاد السعودي لكرة القدم قررت صرف المبلغ المذكور على نشر خمسة آلاف عنوان قاموس جديد وموسوعة متخصصة جديدة في العلوم التطبيقية والحاسوبية،إذ أن المبلغ المعطى للبرازيلي الأجنبي كفيل بدفع مكافآت خمسة آلاف دكتور عربي!!
لكني بعد برهة من الزمن قصيرة تأكدت أن أحلامي كانت كأحلام الملايين من العرب البسطاء الذين يحلمون بصلاح الراعي العربي منذ عشرات السنين ومايزالون يحلمون بعدل الحاكم وتقواه ونظافة يده ومحاربته للفساد والمفسدين ،وإجراء إنتخابات عادلة وشفافة ونزيه وسن قوانين إنتخابات عصرية والسماح بحكومات دستورية وشل يد الأجهزة المتغولة على الناس وأرزاقهم ووظائفهم وحاضرهم ومستقبلهم!(الخامسة والنصف من مساء الثاني والعشرين من تموز/يوليو 2011م)