ربما تكون الكتابة من المهارات التي
يجب أن يتقنها كل إنسان (تقريبا). والصحافة تشكل مدخلا مهما من مداخل
الاتصال وصياغة الرأي العام، وهي ذات علاقة متداخلة بحياة الناس وأفكارهم
وقراراتهم، بحيث يجعل من المهم كثيرا لكل شخص أن يلم بمبادئ الصحافة
والقدرة على محاكمة ما ينشر، واستخلاص فهم سليم للمواقف والأحد والتعبير إجمالا كقدرة
وموهبة هو شرط أساسي غير معلن للترقي في العمل، للمديرين والعاملين وحتى
المهنيين الذين يبدو عملهم غير مرتبط بهذه القدرات كالطب والهندسة.
والقدرة على التعبير والكتابة هي أيضا مهارة ضرورية للتعليم المستمر،
والتأثير والنجاح في العمل أي عمل، والارتقاء به على المستوى الفردي
والمؤسسي.
والكتابة الصحافية من أهم
وسائل التعبير والتأثير، ومهارة ضرورية للأفراد والمؤسسات؛ إذ إن الصحافة
أصبحت مدخل الحكومة والمجتمع لطرح الأفكار، وتبادل الرأي والحوار،
واستمزاج المواقف والاتجاهات، وترويج السلع والمنتوجات والخدمات.
وما أقدمه في هذه المساحة هو
فكرة موجزة عن الكتابة الصحافية، وهي محاولة ليست للتدريب أو التعليم،
ولكن للتوضيح وحث القراء على السعي في تعلم الكتابة والاهتمام بفنون
الصحافة، باعتبار ذلك ليس ترفا فكريا أو هواية، لكنه مهارة ومشاركة عامة
وضرورية.
تضعني هذه المقولة في مأزق
صعب، لأنها تعني أنني أعتقد أن الكتابة الصحافية موهبة وصنعة، وهي أيضا
تحتاج إلى تدريب وصقل وتنمية. فلا تكفي الموهبة والمَلَكة؛ وكم نعرف من
أشخاص يمكن أن يكونوا من أفضل الكتاب لو أنهم رعوا أنفسهم وتعبوا في
الكتابة والمتابعة.
والصحافة من أكثر الفنون
قبولا للتطور، لأنها أكثر اتصالا بالحياة الإنسانية والممارسات اليومية
للنشاط الإنساني، وهو نشاط في تغير مستمر لا تستطيع معه البشرية أن تثبت
على حالة واحدة، وهو في السنوات الأخيرة يتغير ويتطور بمعدلات متسارعة تصيب
بالذهول والصدمة.
فما أقدمه في هذه المساحة،
مما تعلمته أو عرفته، قد يكون شيئا قديما تجاوزته الصحافة، وحسب هذه
المقالة أن تنبه إلى جملة أفكار وملاحظات، وتدفع القراء إلى البحث
والتعلم. ويسرني كثيرا أن تنسوا أنني قلت شيئا، وتبدأوا بالمحاولة غير
مثقلين بما ألزمت به نفسي أو اجتهدت به أو تعلمته؛ ذلك أن معدلات التغير
التي قلت عنها جعلت كل جيل أكثر قدرة على إدراك حاجاته التدريبية
والتعليمية، وجعلت له همومه الخاصة، وقدمت له آفاقا قد لا يدركها الجيل
السابق.
لقد تطورت الصحافة عن الأدب؛
فقد كان المشتغلون بالصحافة من الأدباء، وما زالت الصحافة حتى اليوم
تجتذب الأدباء برغم أنها انفصلت عن الأدب، وأصبحت حرفة من الحرف، وفنا
قائما بذاته له قواعده وأصوله. والصحافة في المجتمعات الديمقراطية تزود
المواطنين بالمعلومات والحقائق، إذ لا يحق لأحد أو جهة أن تحتكرها، مع ما
يستلزمه ذلك من ثقافة وأخبار ودراسات، تساهم في دفع المواطنين إلى
المشاركة في الرأي واتخاذ القرار. والعمل الصحافي، كتابة وإعلانا وتداولا
وحوارا، يشكل عنصرا مهما في شبكة الحياة، ويتصل بجوانبها وشؤونها كافة،
ويخص جميع الناس.
وإننا نجد في القرآن الكريم
كثيرا من التوجيهات والأفكار مما يصلح أن يكون فلسفة وأساسا للعمل
الإعلامي والتعامل مع الأخبار والمعلومات. فقد نقل القرآن الكريم خبر
معركة بين الروم والفرس: “غلبت الروم في أدنى الأرض”، وفي ذلك توجيه لأهمية
الأخبار والمعلومات، والحق في تداولها ومعرفتها. وبعد ذكر خبر المعركة،
تتحدث الآية عن المستقبل: “وهم من بعد غلبهم سيغلبون”. وحدثنا القرآن
الكريم عن الهدهد الذي أتى بخبر قوم تملكهم امرأة، ويعبدون الشمس: “إني
جئتك من سبأ بنبأ يقين، إني وجدت امرأة تملكهم …”. وفي قصة يوسف عليه
السلام، وكذلك قصة ابني آدم ما يصلح توجيها للتعامل مع قضايا وأخبار
الجريمة والجنس. وفي التعامل مع الأخبار والإشاعات، نجد قوله تعالى: “وإذا
جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وأولي الأمر
منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم”، وفي ذلك توضيح لأهمية تفسير الأخبار
وتحليلها. وهذه القدرة ليست متاحة لجميع الناس.
وفي قصص الأنبياء والسير
مبادئ وأفكار كثيرة للإعلام والكتابة: “لقد كان في قصصهم عبرة”. وتقدم قصة
موسى عليه السلام مع العبد الصالح (سورة الكهف) فكرة واضحة عن خطورة
الإعلام المجزوء والأحادية في رؤية الأحداث وفهمها وتفسيرها. وكذلك قصة
داود عليه السلام مع الخصمين الذين تسوروا المحراب.
وأخيرا،
فلا أعرف لماذا يكتب نزار قباني أفضل مني برغم أني أعرف جميع الكلمات التي
يستخدمها! هذه النكتة تستخدم كثيرا للدلالة على أسرار الصنعة والموهبة،
ومثلها أن الأزهار متاحة لجميع الكائنات ولكن النحل وحده يصنع منها العسل.
ويقال عن فلاح (ليس صعيديا) أنه لما رأى الربيع والأزهار تحيط به تأسف
كثيرا لأنه ليس حمارا يستطيع أن يأكل هذا الخير كله! والواقع أن جميع
المواهب والصناعات والاختراعات هي توظيف لموارد متاحة وليست معجزات، برغم
أنها تبدو في محصلتها النهائية وكأنها معجزة، لكن توظيف الموارد والمواهب
بفعالية أو هدرها هو التفسير الحقيقي للإنجاز وقياسه.